الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: تعجيل لاستجلال أهل الكتاب بعدما فيه استجلاب العرب.{إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} موحدًا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه.وقرأ الكوفيون وأبو رزين ويحيى وقتادة {مُخْلِصًا} بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه {وَكَانَ رَسُولًا} مرسلًا من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما يشاء من الأحكام {نَبِيًّا} رفع القدر على كثير الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبىء أي المنبىء عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى» لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه.والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك الاحتمال.ووجه الإتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأتبأهم عنه سبحانه.واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معناهما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيًا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما.{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى: {جَانِبِ الطور الايمن} [طه: 80] بالنصب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضًا أي من جانبه الميمون المبارك. وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأولى أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض: إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل: إن المراد ناديناه مقبلًا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الاخبار ما ينادي على خلافه {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، {ونجيا} فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيًا، وقال غير واحد، مرتفعًا على أنه من النجو وهو الارتفاع.فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقًا مختصًا بنبينا صلى الله عليه وسلم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} بصدقه وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده.{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من أجل رحمتنا له {أَخَاهُ} أي معاضدة أخيه وموازرته إجابة لدعوته بقوله: {واجعل لي وزيرًا من أهلي هرون أخي} [طه: 29، 30] لا نفسه عليه السلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول {وَهَبْنَا} وقوله تعالى: {هارون} عطف بيان له، وقوله سبحانه: {نَبِيًّا} حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون {أَخَاهُ} بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسمًا مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفًا فإبدال الاسم من الحرم مما لم يوجد في كلامهم، وقيل: التقدير وهبنا له شيئًا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئًا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولًا. اهـ.
قال تعال في سورة (النمل): {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلِونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} [النمل: 6-9] فقوله في (النمل): {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} هو معنى قوله في (مريم): {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52]. وقوله في (طه): {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى} [طه: 11] الآية، وقوله: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7] هو معنى قوله في (طه): {إِذْ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} [طه: 10] اي من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها. وقال تعالى في سورة (القصص): {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَارًا لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 29-30] الآية. فالنداء في هذه الاية هو المذكور في (مريم)، وطه. و(النمل) وقد بيَّن هنا أنه نودي من شاطىء الوادء الأيمن في البعقة المباركة من الشجرة. فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هوالطور، وفي يمين الوادي المقدي الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له. وقد قدمنا قول ابن جرير: أن المراد يمين موسى. لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال. وقال ابن كثير في قوله: {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن} أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب. كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه اه منه- وهو معنى قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] الآية، وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] الآية.والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة- نداء الله له. فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة. إذا لا يمكن أن يقول غير الله: {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} [النمل: 9]، ولا أن يقول: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} [طه: 14] ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراي على الله، كقول فرعون {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] على سبيل فرض المحال- فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حقو وصواب.فقوله: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني}، وقوله: {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} [النمل: 9] - صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك. كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام.وقوله تعالى: {مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30] قال الزمخشري في الكشاف: من الأولى والثانية لابتداء الغاية. أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة و{مِنَ الشجرة} بدل من قوله: {مِن شَاطِىءِ الوادي} بدل اشتمال. لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء. كقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33].وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن} الآية: قال المهدوي: وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء- انتهى منه. وشاطىء الوادي جانبه. وقال بعض أهل العلم: معنى (الأيمن) في قوله: {مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن}. وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] من اليمن والبركة. لأن تلك البلاد بارك الله فيها. وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى (نور) وهو يظنها نارًا. وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسنًا. قيل هي شجرة عوسج. وقيل شجرة عليق. وقيل شجرة عناب. وقيل سمرة. والله تعالى أعلم.وقوله تعالى في سورة (النمل): {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] اختلفت عبارات المفسرين في المراد ب {من في النار} في هذه الآية في سورة (النمل) فقال بعضهم: هو الله جل وعلا، وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب قالوا: {بورك من في النار} اي تقدس الله وتعالى. وقالوا: كان نور رب العالمين في الشجرة. واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليه بصره من خلقه».قال مقيده عفا الله عنه: وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن. ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة. سواء قلنا: إنها نار أو نور، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله! وتأويل ذلك ب {بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] سلطانه وقدرته لا يصح. لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم- وبه تعلم أن قول أبي حيان في (البحر المحيط): قال ابن عباس، وابن جبير، والحسن وغيرهم: أراد بمن في النار ذاته. وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى. وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف. أي بورك من قدرته وسلطانه في النار اه أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات، ولم يصب فيما ذكر من التأويل. والله أعلم. وقال بعضهم: إن معنى {بُورِكَ مَن فِي النار} اي بوركت النار لأنها نور. وبعده عن ظاهر القرآن ايضًا واضح كما ترى. وقال بعضهم: أن {بُورِكَ مَن فِي النار} أي بروكت الشجرة التي تتقد فيها النار. وبعده عن ظاهر القرآن أيضًا وضاح كما ترى. وإطلاق لفظة من على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى.وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم- قول من قال: إن في النار التي هي نور الملائكة وحولها ملائكة وموسى. وأن معنى {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} أي الملائكة الذي هم في ذلك النور ومن حولها. اي وبروك الملائكة الذين هم حولها، وبورك موسى لأنه حولها معهم. وممن يروى عنه هذا: السدي. وقال الزمخشري (في الكشاف): ومعنى أن {بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت فيها، وفي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة} [القصص: 30] وتدل عليه قراءة أبي (أن تباركت النار ومن ولها). وعنه (بوركت النار). وقال القرطبي رحمه الله في قوله: {أّن بُورِكَ مَن فِي النار}: وهذا تحية من الله لموسى، وتكرمة له كما حيَّا إبراهين على إلسنة الملائكة حين دخلوا إليه قال: رحمه الله وبركاته عليكم أهل البيت.
|